إنكار استقلال السنة بالتشريع.
الشبهة: إنكار استقلال السنة بالتشريع.
• مضمون الشبهة: ينكر بعض المغرضين استقلال السنة النبوية بالتشريع فيما سكت عنه القرآن؛ بحجة أن ذلك يقدح في القرآن. زاعمين أن وظيفة السنة تقتصر على التفسير والبيان فقط، ولا تتعداهما إلى التشريع الذي هو حق إلهي محض.
- وهذه الشبهة باطلة من عدة أوجه:
• أولًا: إن وظيفة السنة لا تقف عند مجرد بيان ما في القرآن فقط، حتى وهي تفسر القرآن، فإن التفسير ذاته لا يخلو من إضافة؛ ما بين تخصيص عام أوتقييد مطلق أو تفصيل مجمل، وهذا في حد ذاته إضافة جديدة، ولو اقتصر دور السنة على بيان ما في القرآن، لتنافى ذلك مع حكمة الله -سبحانه وتعالى- القادر على إنزال الكتاب مفصلًا لا يحتاج إلى سنة تبينه، وهذا ما لم يكن!
- يقول د. القرضاوي: "والحق الذي لا مراء فيه، أن جل الأحكام التي يدور عليها الفقه في شتى المذاهب المعتبرة، قد ثبت بالسنة، ومن طالع كتب الفقه تبين له ذلك بكل جلاء، ولو حذفنا السنن وما تفرع عليها، واستنبط منها من تراثنا الفقهي ما بقي عندنا فقه يذكر" [المدخل لدراسة السنة النبوية].
• ثانيًا: إن الاستدلال بقوله تعالى: {إن الحكم إلا لله} على قصر التشريع على الله وحده دون رسوله - استدلال خاطئ؛ إذ الحكم المقصود في الآية هو الحكم على الكافرين بتأخير العذاب وتأجيله، وهذا الأمر حكمه لله وحده إن شاء عذبهم في الدنيا وإن شاء أجله إلى الآخرة.
- قال القرطبي في تفسيره "الجامع لأحكام القرآن":
{إن الحكم إلا لله}، أي: ما الحكم إلا لله في تأخير العذاب وتأجيله.
- وقد أمرنا الله -عز وجل- بالرجوع إلى حكم النبي -صلى الله عليه وسلم- في مثل قوله عز وجل: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم}، وقوله عز وجل: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر}.
- وهذه مواقفٌ للصحابة تؤكد وتظهر عملهم بالسنة:
* عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (اتخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- خاتمًا من ذهب فاتخذ الناس خواتيم من ذهب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني اتخذت خاتما من ذهب فنبذه وقال: إني لن ألبسه أبدا، فنبذ الناس خواتيمهم). [صحيح البخاري].
* وروي عن أبي جحيفة قال: (قلت لعلي: هل عندكم كتاب؟ قال: لا، إلا كتاب الله، أو فهم أعطيه رجل مسلم أو ما في هذه الصحيفة... إلخ). [صحيح البخاري]، والصحيفة إنما هي مدونة أحاديث في الأحكام، كتبها علي -رضي الله عنه عن النبي- صلى الله عليه وسلم- يلجأ إليها عندما تنزل به النوازل الفقهية.
• ثالثًا: حديث: "إني لا أحرم إلا ما حرم الله في كتابه"، حديث منقطع كما قال الشافعي، فلا يصلح الاستدلال به، وعلى فرض صحته:
- يقول البيهقي: "إن صحت هذه فإنما أراد فيما أوحى الله، ثم إن ما أوحي إليه نوعان: أحدهما وحي يتلى، والآخر وحي لا يتلى" [مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة، للسيوطي].
- وأقول أيضًا: إن أحكام الشريعة إنما ثبت أكثرها بالسنة، وما في القرآن من أحكام، إنما هي مجملة وقواعد كلية في الغالب، وإلا فأين نجد في القرآن أن الصلوات خمس؟ وأين نجد عدد ركعات الصلاة، ومقادير الزكاة، وتفاصيل شعائر الحج، وسائر أحكام المعاملات والعبادات؟
• رابعًا: إن الخلاف بين القرآن والسنة خلاف مزعوم؛ إذ كيف يعقل أن يختلفا، وهما من مشكاة واحدة، وما يزعم أنه مخالفة، إنما هو زيادة علم تولت السنة تبليغه، والأمور التي بينتها السنة ولم ترد في القرآن دليل على استقلال السنة بالتشريع لا على اتهام القرآن بالنقص كما يزعم المفترون.
- قال تعالى: {وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم}، فالله -عز وجل- قد فرق بين الكتاب والحكمة بالعطف المقتضي للمغايرة، وأفرد الضمير العائد عليهما ليدل على وحدة مصدرهما، وطالما أن القرآن والسنة مصدرهما واحد، فكلاهما وحي، فيستحيل أن يتعارضا، فوقوع التعارض من وجهة نظر الطاعن يتوقف على أحد أمرين:
* الأول: وجود الأحاديث الموضوعة والمنكرة.
* الثاني: عدم فهم القرآن بإغفال النظر والتأمل فيه، ثم إصدار الاتهام بوقوع الاختلاف فيه، دونما تأمل ولا روية.
• الخلاصة: لم تقف وظيفة السنة عند مجرد تبيين القرآن فقط؛ بل استقلت بتشريعات أيضًا، وتلك ميزة اختصت بها ليستقيم الأمر ويتضح أمام ناظريه.
تعليقات
إرسال تعليق