مقدمة كتبتها لمقال: "معجزة الفتوحات الإسلامية"

 بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فقد قال تعالى: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا..}، وفي قوله تعالى: {وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم} قال ابن عباس -رضي الله عنه-: (أي: يوسع لهم في البلاد حتى يملكوها ويظهر دينهم على سائر الأديان)، [نقله البغوي في تفسيره].

فكان شرط الاستخلاف في الأرض هو الإيمان والعمل الصالح، وقد صدق الله وعده، قال ﷺ: (إنَّ اللَّهَ زَوَى لي الأرْضَ، فَرَأَيْتُ مَشارِقَها ومَغارِبَها، وإنَّ أُمَّتي سَيَبْلُغُ مُلْكُها ما زُوِيَ لي مِنْها..). [رواه مسلم - 2889]، وقد كان ذلك، فقد رفع الله بهذه الدين أمة كانت بين الرمال غارقة في جهلها لتضع قدمًا لها في مشرق الأرض وقدمًا أخرى في مغربها..

وهذا الاستخلاف وهذه الفتوحات ليست نعمة تنالها هذه الفئة فقط، أي: الفئة المؤمنة التي عملت صالحًا، في مقابل إيمانها وعملها الصالح، بل هذا الاستخلاف وهذه الفتوحات نعمة على كل بقعة وصلتها واحتضنت أهلها..

لنتأمل قوله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس}، هذه الأمة -أمة خير الأنبياء محمد ﷺ- أخرجت للناس، أخرجت لأجل الناس، لأجل إنقاذ الناس، "أرسل سعدُ بن أبي وقاص قبل القادسية ربعيَّ بن عامر رسولًا إلى رستم قائد الجيوش الفارسية وأميرهم، فدخل عليه وقد زينوا مجلسه بالنمارق والزرابي والحرير وأظهر اليواقيت واللآلىء الثمينة العظيمة.. فقالوا له: ضع سلاحك، فقال: إني لم آتكم وإنما جئتكم حين دعوتموني، فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت. فقال رستم: ائذنوا له. فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق لخرق عامتها. فقال رستم: ما جاء بكم؟" فقال ربعيُّ قولته الشهيرة: "الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سَعة الدنيا والآخرة" [البداية والنهاية لابن كثير 7/39].

فالذي يتأمل في هذه الفتوحات التي كانت نتيجة استخلاف الله لنا في الأرض، يعلم علم اليقين أنها نعمة من نعم الله وأنها معجزة لم يشهد التاريخ مثلها، لماذا هي نعمة؟ لأن ما فتحت أرض إلا وحلَّ بها العدل وانتشر بها العلم ونمت.. وما مثال الأندلس -أعادها الله لنا- عليكم ببعيد.

ولماذا هي معجزة تاريخية؟ لأن هذه الظاهرة مما لا يتكرر عادة في تاريخ الأمم، يقول (غوستاف لوبون) في كتابه (حضارة العرب ص127) : "...والحق: أن الأمم لم تعرف فاتحين رحماء متسامحين مثل العرب .. ولا دينًا سمحًا مثل دينهم"!! .. وهنا يتبيّن لك كيف أن صفة الرحمة والتسامح كانت ملازمة لهذه الفتوحات، وهذا مما لا يتكرر عادة في تاريخ الأمم، إذ ما دخل الغزاة على بلدة إلا أهلكوها ونهبوا خيراتها وذلّوا أهلها..

ومن المعجزات المصاحبة للفتوحات الإسلامية أيضًا، هو الترحيب بها من غير المسلمين، يقول (ويل ديورانت) في كتابه (قصة الحضارة 12/131): "..وكان اليهود في بلاد الشرق الأدنى قد رحبوا بالعرب الذين حرروهم من ظلم حكامهم السابقين.. وأصبحوا يتمتعون بـ كامل الحرية في حياتهم وممارسة شعائر دينهم.." 

وينقل مترجم كتاب (حضارة العرب) لـ (غوستاف لوبون) في حاشية ص 128 قول (روبرتسن) في كتابه (تاريخ شارلكن):

"إن المسلمين وحدهم هم الذين جمعوا بين الغيرة لدينهم .. وروح التسامح نحو أتباع الأديان الأخرى .. وإنهم مع امتشاقهم الحسام (أي السيف) نشرًا لدينهم .. فقد تركوا مَن لم يرغبوا في هذا الدين: أحرارًا في التمسك بتعاليمهم الدينية"!! 

فأتت الفتوحات الإسلامية ومعها الدهشة والفخر خارقة للعادة التاريخية، فكانت معجزة تاريخية. 

وأما بعد، أنقل لكم بعضًا من كلام المؤرخين والمفكرين غير المسلمين، والمستشرقين وآراءهم عن الفتوحات الإسلامية: 

1… يقول المؤرخ الإنجليزي السير (توماس أرنولد) في كتابه (الدعوة إلى الإسلام ص51): 

"لقد عامل المسلمون المنتصرون العرب: المسيحيين: بتسامح عظيم منذ القرن الأول للهجرة!! .. واستمر هذا التسامح في القرون المتعاقبة .. ونستطيع أن نحكم بحق أن القبائل المسيحية التي اعتنقت الإسلام: قد اعتنقته عن اختيار وإرادة حرة!! .. وأن العرب المسيحيين الذين يعيشون في وقتنا هذا بين جماعات المسلمين: لخير شاهد على هذا التسامح"!!

2… وتقول المستشرقة الألمانية (زيغريد هونكه) في كتابها (شمس العرب تسطع على الغرب ص364):

"العرب لم يفرضوا على الشعوب المغلوبة الدخول في الإسلام .. فالمسيحيون والزرادشتية واليهود الذين لاقوا قبل الإسلام أبشع أمثلة للتعصب الديني وأفظعها: سمح لهم جميعًا دون أي عائق يمنعهم بممارسة شعائر دينهم .. وترك المسلمون لهم بيوت عبادتهم وأديرتهم وكهنتهم وأحبارهم دون أن يمسوهم بأدنى أذى!! .. أو ليس هذا منتهى التسامح؟!! .. أين روى التاريخ مثل تلك الأعمال؟ .. ومتى"؟!!

3… ويقول المفكر الأسباني (بلاسكوا أبانيز) في كتابه (ظلال الكنيسة) متحدثًا عن الفتح الإسلامي للأندلس: 

"لقد أحسنت (أسبانيا) استقبال أولئك الرجال الذين قدموا إليها من القارة الإفريقية (يعني المسلمين) .. وأسلمتهم القرى برمتها بغير مقاومة ولا عداء!! .. فما هو إلا أن تقترب كوكبة من فرسان العرب من إحدى القرى .. حتى تفتح لها الأبواب!! .. وتتلقاها بالترحاب!! .. فكانت غزواتهم غزوة تمدين وحضارة ولم تكن غزوة فتح وقهر .. ولم يتخل أبناء تلك الحضارة زمنًا عن فضيلة حرية الضمير .. وهي الدعامة التي تقوم عليها كل عظمة حقة للشعوب!! … فقبلوا في المدن التي ملكوها كنائس النصارى و بيع اليهود (جمع بيعة) ولم يخشَ المسجد من معابد الأديان التي سبقته .. بل عرف لها حقها!! .. واستقر إلى جانبها .. غير حاسد لها .. ولا راغب في السيادة عليها"!! 

إلى هنا.. 

وكانت هذه النقولات من باب {وشهد شاهد من أهلها}، وتعريفًا وتثبيتًا لهذه المعجزة، معجزة الفتوحات الإسلامية.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

في العقيدة (تلخيص شرح الأصول الثلاثة لابن عثيمين).

غدير خم

الله أكبر